كمسيرتها الفنية القصيرة والهادئة، كانت حياة المغنية اللبنانية منى مرعشلي (1958) قصيرة، إذ رحلت صباح أمس في بيروت عن 58 سنة، بعد 3 أيام من خضوعها لجراحة استئصال المرارة. صاحبة الصوت الرخيم، الجهوري والقوي، رحلت من دون إنذار أو أسباب واضحة، تماماً كما اعتزلت الفن، فلم تكن تعاني من مرض عضال، وكانت متفائلة، تصر ح بأنها قد تُصدر أغنيات جديدة قريباً. وعندما كر مها "مترو المدينة" وبرنامجه الفني الأسبوعي "ميتروفون" (في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي) الذي يضيء على أعمال فنانين مشهورين لم يحظوا بالاهتمام الكافي من الإذاعة اللبنانية، كانت تنوي الحضور لتبقى على تماس مع جمهور من أجيال مختلفة لا يزال يحفظ أغانيها التي لا تتجاوز التسع عشرة. وقال أطباء عاينوها إنها توفيت جراء ذبحة قلبية.
صاحبة الطلة البسيطة غير المتكل فة التي هجرت الفن باكراً، قالت في مقابلة معها في العام 2013، إنها لم تقر ر اعتزال الفن، لأنه يجري في عروقها، لكن "الظروف الحياتية ومرض أمي، وأجواء الحرب الأهلية في لبنان، وقبلها الحروب الإقليمية في مصر وفلسطين، أحبطتني".
منى مرعشلي تغني (لك شوقة عندنا) وهي من أشهر أغانيها
صاحبة "لك شوقة عندنا" و "شمس المغارب رو حت"، رفضت الانزلاق في فخ الاستهلاك والنزول عند رغبة "الجمهور عاوز كده" أو "المنتج عاوز كده"، فلم تتنازل عن مبادئ الصوت والأداء الجي دين أولاً، ولم ترض خوض تجربة الفيديوكليب أو التغيير في شكلها، معتبرة أنها مغنية ذات صوت جميل وليست بهلوانية أو عارضة أزياء، و"من لا يعجبه شكلي أقول له: هيدا الموجود، وفي الأساس هل هم يريدون أن يسمعوا صوتي أم يشاهدوا شكلي؟! أنا أريد أن أسأل هل الفنانات اللواتي نشاهدهن مستلقيات على الأسر ة في الفيديوكليبات، هن من صاحبات الأصوات الجميلة؟ لست معق دة من شكلي، ومنذ أن انطلقت في الفن أحبني الناس صوتاً وشكلاً. خسرت الكثير من وزني ولكني أرفض العمليات التجميلية، لأني لست في حاجة إليها من ناحية، ومن ناحية أخرى لكوني لست مقتنعة بها ولا أحب المغامرة في هذا الموضوع"، أكدت مرعشلي في العام 2013. وأضافت بهدوء وحزم: "لا يمكن أن أتمايل أو أن أتغنج، كوني لست من هذه النوعية".
تنتمي منى مرعشلي إلى مدرسة صارمة في الفن التي تعتبر الصوتَ العامل الأول والأخير للنجاح
تداخلت ظروف اجتماعية وسياسية وعملانية في غياب منى مرعشلي الكلثومية الهوى، والتي تُعتبر من أهم من غنى لأم كلثوم، عن الساحة الفنية، فقد ظُلمت هذه الفنانة الحساسة، البسيطة والطيبة من جانب الإذاعة اللبنانية أولاً، التي غي بت أغانيها، كأغاني كثيرين مثلها، عن البث لمصلحة فنانين كبار مثل زكي ناصيف ووديع الصافي والرحابنة وصباح، ولا نعرف السبب حتى الآن.
ثانياً، لم تتعاون ابنة بيروت، التي فازت بذهبية "استوديو الفن" وهي في الـ16، منذ البداية مع أي منتج، وكل أعمالها أنتجتها على حسابها الخاص. "أنفقتُ بما فيه الكفاية على أعمالي، ولكني لا أستطيع الاستمرار على هذا النحو"، كما أكدت. لكن الفنانة التي تغن ى بصوتها سي د مكاوي ومحمد سلطان وبليغ حميد والناقد جورج إبراهيم الخوري، اعترفت بأنها كانت مهملة ومقص رة بحق نفسها، ولم "أعتبر الغناء مهنة"، فهي ظهرت في زمن التحولات الصورية والسياسية والفنية، ولم تطو ر صورتها وأعمالها، أو لم تُجِدْ التسويق لنفسها بالشكل المطلوب، لتتماشى مع التغيرات المعاصرة، فهي بلا شك تنتمي إلى مدرسة صارمة في الفن، وهي مدرسة أم كلثوم وعبدالوهاب والعمالقة، التي تعتبر الصوتَ العامل الأول والأخير للنجاح.
غن ت منى "يا مسهرني" في برنامج "استوديو الفن" عام 1973 وفازت بالميدالية الذهبية
عندما أطلق المخرج سيمون أسمر برنامج "استوديو الفن" عام 1973، تمنى مدير المدرسة على والد منى أن يسمح لها بالمشاركة وهي بعدُ لم تكن بلغت الخامسة عشرة. وعلى رغم توجسات الأب على طفلته بين الكبار، وافق على المشاركة، ورشحها سيمون أسمر لتمثيل محافظة الجنوب. غن ت "يا مسهرني"، ومع انتهاء البرنامج فازت بالميدالية الذهبية، وبعدها كانت الحرب الأهلية اللبنانية المفاجأة السلبية الأولى المؤثرة في مسيرة منى. تحدت هذه المعوقات وبدأت تطلق أغنياتها الخاصة تباعاً وعبر إدارة من المخرج سيمون أسمر نفسه.
منى مرعشلي تغني شمس المغارب في ستوديو الفن 1974 بعد عام على فوزها
حازت مرعشلي ثقة كبار الفنانين وغنت من ألحان نور الملا ح صاحب الهوى المصري في اللحن بشكل عام. وكذلك غنت لمنصور الرحباني، زياد الرحباني، فيلمون وهبة وآخرين. ولاقت في البدايات شهرة من خلال أغنية "شمس المغارب"، وتحديداً العام 1974، والتي كان سيمون أسمر يريدها بصوت عبد الكريم الشعار الذي كان من متخرجي النسخة الأولى لأستوديو الفن، لكنه كان كارهاً للأغنية وملحنها نور الملاح، بحسب ما أشار المخرج هشام جابر خلال حفلة تكريم مرعشلي في "مترو المدينة". وشاء الحظ أن تحقق انتشاراً كبيراً من خلالها ولا تزال من الأغنيات الأثيرة في الطرب الخفيف المنتمي إلى الربع الأخير من القرن العشرين.
ويرى جابر أن منى مرعشلي بعد 1982 تأثرت بتبدل الأهواء السياسية، وبوفاة والدها. غنت في كثير من البلدان العربية، وبلدان الاغتراب ومنها أستراليا وأميركا التي أحيت فيها عام 2010 آخر حفلة لها وقررت الاعتزال.
تأثرت منى بتبدل الأهواء السياسية وبوفاة والدها فقررت الاعتزال
تعاملت مرعشلي مع كبار الملحنين والشعراء، مثل نور الملاح وزياد الرحباني وفيلمون وهبي والأخوين رحباني وفيصل المصري وجوزف حرب. ومن أهم أغانيها "اتركني نسالي إسمي" (كلمات زياد الرحباني وألحان فيلمون وهبي)، "سافر يا حمام"، "سألت كل مسافر"، "علشان عيونك"، "ليه تحلف بعينيا" و"مالي ومالك". أما أشهرها على الإطلاق فهي أغنية "شمس المغارب". مع العلم أن ها أد ت أغنية قصيرة بعنوان "دا فيلم أميركي طويل"، مقل دة أم كلثوم في مسرحية "فيلم أميركي طويل" (إخراج زياد الرحباني).
تعليقات الزوار | اضف تعليق
